من أوراق كربلاء ( ١٢ ) الورقة الثانية عشر : ليلة التحضير لأعلى درجات الشهادة
يحيى غالي ياسين
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يحيى غالي ياسين

اجتمع في ليلة عاشوراء ويومها الجهادان ، الأكبر والأصغر في الإسلام ، ثبات ابي عبدالله واصحابه على المبدأ والقضية التي نهضوا بها من جهة ، وانشراح النفاق والكفر في قلوب جيش ابن زياد من جهة اخرى .. الغى اي احتمال لأي حلّ او نجاة لبضع عشرات أمام عشرات الألوف من المقاتلين .. !
في ليلة عاشوراء انتهت جميع الحلول وتُقرر المصير النهائي للمواجهة ، ولكن هنا وفي هذه الظروف بدأ الاستثمار الحقيقي من قبل الإمام عليه السلام لكل ايمان وكل اخلاص وكل وعي وكل سموّ نفس عند أهل بيته وأصحابه، وقرر صلوات الله عليه ان يأخذ هو ومن معه اعلى درجات الصُحبة واعلى درجات الشهادة ولم يتركوا درجة مفاضلة واحدة لغيرهم اطلاقا ..
ونفّذ الامام خارطة الاستثمار هذه وفق خطة روحية ونفسية وتربوية وعسكرية غاية في الدقة وتدرج معهم ضمن مستويات متعددة لا يسعها هذا المنشور ولكن نشير لمقتطفات منها :
+ أراد اولاً ان يكون قتال أصحابه وأهل بيته بين يديه نابعاً من التزامات ذاتية تابعة من درجاتهم الايمانية وليس خاضعاً لمجاملات اجتماعية او اوامر عسكرية أو انها مجرد افراغ ذمّة اسلامية او الوفاء بالتزام اخلاقي مع الحسين ع .. الخ ، وجرّدهم عن كل تلك الداوفع الهابطة - نسبياً - وذلك عندما اعطى لهم الاذن والرخصة الشرعية للانسحاب من ساحة المواجهة ليلاً وترك لهم القرار والخيار كاملاً ، تقول الرواية أنه عليه السلام جمعهم في ليلة عاشوراء وقال لهم : « ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم جميعاً، فانطلقوا في حِلٍّ ليس عليكم منّي حرج ولا ذمام، وهذا الليل قد غَشيكم فاتّخذوهُ جَمَلاً، ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذَروني وهؤلاء القوم؛ فإنّهم لا يريدون غيري، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري» .
+ امتنعوا عن الانصراف ورفضوا الرخصة وبطريقة مميزة وقطعية ، أفصحت عن شخصياتهم خير افصاح ، عبّرت كلمات الرفض عن مستوى ايماني عالي ودرجة بصيرة سامية وقرب الهي منقطع النظير ، فنسمع أحدهم يقول : أكلتني السباع حياً إن فارقتك ، والاخر يقول : والله لو علمت أني أُقتل ، ثم اُحيا ، ثم اُحرق حيّا ، ثم اُذر ، يُفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك .. الخ ، اجتمعت عقولهم وقلوبهم وسيوفهم على قرار النصرة ومصاحبة الحسين في الطف والشهادة ودرجات السعادة الخالدة ..
+ استمر معهم في الصعود ولم يرض لهم الوقوف على درجة معينة وان كانت عالية ما دام في الإمكان أعلى منها ، فقطع الإمام لهم كل وشائج وعلائق الدنيا وأخبرهم بقتلهم المُحتّم وليعيشوا ليلة تفصلهم بين الدنيا والآخرة ، « يا قوم إنّي غداً أُقتل وتُقْتَلون كُلّكم معي ولا يبقى منكم أحدٌ » ، فقالوا : « الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقَتْل معك أوَلا ترضى أنْ نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله ؟» فدعا لهم بخير .
+ بعد أنّ صفّى نيّاتهم وغربل نفوسهم ووقّع معهم خطة نيل أعلى مراتب الشهادة ، بدأوا بإحياء ليلتهم بطريقة اخرى ، طريقة طالما اعتادوها ولكن هذه المرّة بلا شك مختلفة ، فقد نقل السيد ابن طاووس في كتابه « اللهوف على قتلى الطفوف » : وَبات الحسين (ع) وأصحابُه تلك اللّيلةَ ، وَلهم دويٌّ كَدويِّ النحل ِ، مَا بَينَ راكع وساجد ، وقائم وقاعد ، فَعَبرَ عليهم مِنْ عسكرِ عُمر بنِ سَعد اثنانِ وَثلاثونَ رَجلاً ..
+ وبعد أن احرز لهم الامام اعلى درجات الكرامة ، واطمئن الى ثباتهم وإصرارهم الذي لا يتزلزل ، قرر أن يُكرمهم ويهدي لهم نظرة ملكوتية على درجات سعادتهم وكؤوس فوزهم وانتصارهم ، حيث تذكر لنا الاخبار الواردة أنّ الإمام عليه السلام قد عرّف أصحابه منازلهم الجنّة بعد أن كشف لهم الغطاء :
وأراهم وقد رأى الصدقَ منهم * في المُوالاة بعد كشفِ الغطاءِ
ما لهم مـن مـنازلٍ قد أُعـــدَّتْ * في جِنانِ الخلود يومَ الجـزاءِ
ولَعَمْري وليـس ذا بعـسيـــــــرٍ * أو غـريبٍ من سيّدِ الشُّهــداءِ
فَـلَـقـد أطْلعَ الكليـمُ عليـهــــــا * مـنهمُ كلَّ سـاحـرٍ بـجَــــــلاءِ
حينما آمـنوا بمـا جــــــاءَ فـيه * عندَ إبطالِ سِحـرِهم والـرياءِ
بعـد خوفٍ من آلِ فرعونَ مُردٍ * لهـمُ منـذرٌ بسـوءِ الـبـــــــلاءِ
فأراهم منـازلَ الخيـــــرِ زُلفـىً * وثـوابـاً فـي جنّةِ الأتقيــــاءِ
لِازديـادِ اليقينِ بالحـــــقِّ فـيم * بعدَ دحضٍ للشكِّ والإفـتـراءِ
وثَباتاً منهم عـلى الـدِّينِ فيمــا * شاهَدُوه من عـــالَمِ الإرتقاءِ
(ملحمة أهل البيت (عليهم السلام) للفرطوسي: 3 / 291)
في يوم عاشوراء نزلوا وهم ليسوا من أهل الدنيا ، من خلال ليلتهم العاشورائية وتربيتهم الحسينية وكمالاتهم الكربلائية اصبحوا وكأنهم الملائكة بل أرقى ، أحدهم يعدل الف فارس وأكثر ..!! لبسوا القلوب على الدروع كما يصفهم الشاعر ، يعرفون ان بينهم وبين منازلهم التي رأوها ميلة سيف ، أو طعنة رمح .. لا تستكثروا كل خبر يردكم عن شجاعة هؤلاء ، كانت ليلة عظيمة صنعت منهم فرساناً أقطع بأنهم أشجع مَن على الأرض في حينها ..
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى اولاد الحسين وعلى اصحاب الحسين
لا زلنا في ملفّ كربلاء ..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat