صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

السَّجَّاد.. إمامُ الأحزان!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
السَّجَّادُ زَينُ العابدين.. إمامٌ عاش أصعب الظروف والآلام والمِحَن..
 
لقد قُدِّرَ للعباس وأخوته، وعليّ الأكبر وسائر الأطهار في يوم الطُّفوف، أن يُضَحُّوا بأنفسهم بين يدي إمامهم ومولاهم الحسين عليه السلام، فكان في تضحيتهم سلوةٌ لهم مِن جهةٍ، ثمَّ انقضاءٌ للبلاء من جهةٍ أخرى، حتى سقاهم الرسول صلى الله عليه وآله شربة لا يظمؤون بعدها أبداً..
 
لكن..
قُدِّرَ للسجّاد أن يحيا ويعيش كلَّ آلام الحسين عليه السلام حيَّاً، ثم يُعاين ما جرى عليه، دون أن يفديه بنفسه، ويبذل دونه مهجته، فلم يقدِر عن الدِّفاع عنه، حتّى قال:
نَظَرْتُ إِلَى أَبِي وَأَخِي وَعَمِّي وَسَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مَقْتُولِينَ حَوْلِي! فَكَيْفَ يَنْقَضِي حُزْنِي؟! (الخصال ج‏2 ص519).
 
آهٍ لقلبك الكسير يا زَينَ العُبَّاد كَم تحمَّل..
نَعَم لَقَد رآهم مقتولين حولَه، لكنَّه رأى كيف كان الذَّبحُ أيضاً! فقال: رَأَيْتُ أَبِي وَجَمَاعَةَ أَهْلِ بَيْتِي يُذْبَحُونَ حَوْلِي! (كامل الزيارات ص107).
 
لقد رأى في اليوم العاشر عَجَباً.. ثمَّ توالَت المصائب.. ومنها ما يعجزُ العقلُ عن إدراك حقيقته..
هو القائل: أَنَا ابْنُ مَنِ انْتُهِكَ حَرِيمُهُ! وَسُلِبَ نَعِيمُهُ! وَانْتُهِبَ مَالُهُ! وَسُبِيَ عِيَالُه! ‏( مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ج‏4 ص115).
 
عندَما تُرتَكَبُ بعَبدٍ جريمةٌ فظيعةٌ عظيمةٌ ينهدُّ لها رُكنُه يُكتفى بها رحمةً به، لكنَّ الإمام الذي انهدَّ ركُنه بفقد حامل رايته قُتِلَ بعد أهل بيته، وهل أسوأ من قتل إمام الإنس والجنِّ! لكنَّ لَم يُكتف بذلك.. فليس القومُ ممَّن يتورَّعون عن انتهاك الحُرمات ونَهب الأموال.. ثمَّ سَبي العيال!
 
عيالُ رسول الله صلى الله عليه وآله، معَ إمام زمانهم زين العابدين، يُساقون أسرى مِن بَلَدٍ إلى بَلَد.
يرى السجَّادُ ذلك بل يعيشُه، في معاناةٍ تعجز الأحرُفُ عن خطِّ حروفها ورَسم حدودها، كما الأفكار عن إدراكِ فظاعتها!
 
كيف تَحَمَّلَ قَلبُ هذا الإمام الرقيق الشفيق ما رأى؟! أيُّ عاطفةٍ يحملُها هؤلاء الأطهار يمكنها أن تَحمِلَ ما جرى؟!
 
أين يولي الإمامُ همَّه؟! نحو رأس الحسين عليه السلام على رأسٍ رُمحٍ؟ أم نحوه في مجلس يزيد وهو يضرب ثناياه بمخصرته؟!  فلا حول ولا قوة الا بالله.
 
أم يولي همَّه لنساء الحسين عليه السلام؟!
إِنَّ يَزِيدَ لَعَنَهُ الله أَمَرَ بِنِسَاءِ الحُسَيْنِ (ع) فَحُبِسْنَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ (ع) فِي مَحْبِسٍ لَا يُكِنُّهُمْ مِنْ حَرٍّ وَلَا قَرٍّ حَتَّى تَقَشَّرَتْ وُجُوهُهُم‏ (الأمالي للصدوق ص168).
 
لَم يكُن هذا الحَبسُ غايةَ ما يُريدُه اللّعين، ولا تقشُّرُ وجوه الأطهار هدفَه ومُنيَتَه، لقد أراد تعذيبهم قبل قتلِهم، ولقد وكَّلَ بهم مِنَ الأعاجمِ من لا يفهم العربيَّة.
أحسَّ الأطهار بأنَّ يزيد يُريدُ قتلَهم، فقال بعضُهم: إِنَّمَا جُعِلْنَا فِي هَذَا الْبَيْتِ لِيَهْدِمَ عَلَيْنَا فَيَقْتُلَنَا فِيهِ!
 
لكن.. كان ليزيد تدبيرٌ آخر.. فقال الحَرَس للسجّاد بعد أن كلَّمَهم بلغتهم: قَدْ قَالُوا إِنَّكُمْ تَخْرُجُونَ غَداً وَتُقْتَلُونَ!
حينَها لَم يكُن قَد بقي لهم في هذه الدُّنيا بحسب ما دبَّرَ له يزيد سوى سواد هذه الليلة! التي تُذَكِّرُهُم بليلة العاشر، حينَ طلب سيِّدُ الشُّهداء من القوم سوادَ تلك الليلة.
 
لكن..
 
كما شاء الله تعالى أن يُرى الحسين قتيلاً.. فأَذِنَ في قتله، ولم يمنع أعداءه من ذلك.. شاء أن يراهنَّ سبايا.. فأذن في سَبيِهم، دون أن يأذن في قَتلهم..
فقال زين العابدين عليه السلام لهؤلاء الحَرَس: كَلَّا، يَأْبَى الله ذَلِكَ! (دلائل الإمامة ص200).
وهو ما كان.. فَحَفِظَ الله تعالى هذه الثُلَّة لتُكمِلَ مسيرة الحسين عليه السلام.
 
ولقد كان السَّيفُ سِلاحاً في كربلاء، إلى جَنب الكَلِمَة، والدُّعاء، والدَّمعة..
فأكمَلَ السجَّادُ الطريق بكلِّ هذه الأسلحة، إلا السيف!
 
فمِن كلماته ودُعائه ظَهَرت صحيفته الشَّهيرة..
ومِن دمعَته ظَهَرَ ما جعله خامس البكائين، شريكاً لآدم ويعقوب ويوسف عليهم السلام، وجدَّتِه الزهراء البتول عليها السلام!
 
إنَّها الدمعة المتفجرة التي لا تُعرَفُ قيمتُها، أو تُعرَفُ وتُنكَر!
 
يقول الصادق عليه السلام:
وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ فَبَكَى عَلَى الحُسَيْنِ (ع) عِشْرِينَ سَنَةً (أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً)، وَمَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إِلَّا بَكَى!
 
الحَصرُ في حديث الإمام المعصوم عليه السلام يعني أنَّه ليس هناك طعامٌ تناولَه الإمام عليه السلام ولم يبكي قبله على أبيه الحسين عليه السلام! حَتَّى يَبْتَلَّ طَعَامُهُ مِنْ دُمُوعِهِ، ثُمَّ يُمْزَجُ شَرَابُهُ بِدُمُوعِه‏!
 
ليس هناك يومٌ طيلة هذه السنوات لم يبكِ فيه أباه وما جرى عليه، بل كان يبكي مصرَعَ (بني فاطمة) عليهم السلام!
 
حَتَّى قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ الله، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ!
قَالَ: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله، وَأَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ.
إِنِّي لَمْ أَذْكُرْ مَصْرَعَ بَنِي فَاطِمَةَ إِلَّا خَنَقَتْنِي لِذَلِكَ عَبْرَةٌ (الأمالي للصدوق ص141).
 
آهٍ لعِلمك يا زين العباد.. تعلَمُ من الله ما لا نَعلَم فتخنقك العَبرَةُ لذِكرِهم وما جرى عليهم، واليوم يُعابُ على شيعتِك نَزرٌ يسيرٌ مِن البكاء! وهُم لا يعلمون ما تعلَم! ولو علموا لبكوا كما بكيت.. ولكنَّ أنّى لهُم أن يبلغوا ما بَلَغَ الإمامُ من العِلم!
 
لقد لازَمَ الحُزنُ السجّادَ عليه السلام كما لازَمَه ذكرُ الحسين، فجعلَ نقش خاتمه: شَقِيَ وَخَزِيَ قَاتِلُ الحُسَيْنِ (دلائل الإمامة ص193).
 
لقد انقلبَت الدُّنيا بعد سيِّدِ الشُّهداء.. وتنغَّصَت، وتجرَّعَ المعصومون فيها غصصاً بعد أخرى، وازدادوا محنةً بعد أخرى وبلاءً بعد بلاء، حتى قال السجّاد فيما قال:
يَفرَحُ هَذَا الْوَرَى بعِيدِهِمُ * * * وَنَحْنُ أَعْيَادُنَا مَآتِمُنَا
 
وهَل مِن عيدٍ مَرَّ على الإمام لم يذكُر فيه أباه وما جرى عليه؟! ولم تخنقه العبرة وتنهمر دموعه؟! فأيُّ حُزنٍ كان يعيشُهُ (إمامُ الأحزان)؟!
 
لقد صارَ عليه السلام بنفسه شعاراً للحُزن، فهذه زينب عليها السلام: كُلَّمَا نَظَرَتْ الى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ تَجَدَّدَ حُزْنُهَا، وَزَادَ وَجْدُهَا (بحار الأنوار ج‏45 ص198).
 
كلمةٌ نَعجَزُ عن فَهمِها! أليس: مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ الرِّقَّةُ وَالجَزَع‏؟! (الإرشاد ج2 ص93) كما قال السجّادُ عن عمَّته زينب؟! فكيف صارت رؤيتها له سبباً لِتَجَدُّد الأحزان و(ازدياد) الوَجد؟!
 
أيُّ مبلغٍ من الحُزن بلغَه السجّادُ عليه السلام؟!
ذاك ما لا نفهمه، فإنَّه يعلَمُ من الله ما لا يعلمُ أحدٌ..
وإنَّ ما جرى على أبيه إمام الكون يُفتِّتُ الصَّخر.. فكيف بقلبه الشريف؟!
 
فما أعجَبَ حالَ هذا الإمام حيَّاً وميِّتاً، وممّا يثير العجب عند شهادته أنَّ ناقةً عَرَفَت شيئاً من عظمته فبَكَتهُ عليه السلام! ولم يبكِهِ كثيرٌ من الإنس!
 
فلقَد كان له ناقةٌ حجَّ عليها: عِشْرِينَ حِجَّةً فَمَا قَرَعَهَا بِسَوْطٍ (الخصال ج‏2 ص518).
ولمّا توفي رحمه الله: خَرَجَتْ حَتَّى أَتَتِ الْقَبْرَ فَضَرَبَتْ بِجِرَانِهَا وَرَغَتْ وَهَمَلَتْ عَيْنَاهَا!
فرُدَّت إلى موضعها.. وما لبثَت أن عادت إلى قبره وهَمَلَت عيناها مراراً!
 
كشفَ السرَّ ابنُه الباقر عليه السلام فقال: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُوَدِّعَةٌ! فَلَمْ تَلْبَثْ إِلَّا ثَلَاثَةً حَتَّى نَفَقَتْ! (بصائر الدرجات ج1 ص483).
لسانُ حالِ الناقة: لا خيرَ بعدَك في الحياة! بل فِعلُها يكشفُ ذلك!
 
ولئن جَهلَ قومُ صالحٍ قدرَ ناقَتِهم، فلقد أوصى الإمام عليه السلام أن تُدفَنَ ناقتُه: لِئَلَّا تَأْكُلَهَا السِّبَاعُ! (الخصال ج‏2 ص518).
 
هي ناقةٌ وقفَت مع الإمام حججاً عدَّة في موقف عرفة فجعلها الله تعالى مِن نِعَم الجنَّة! وباركَ بها وبنسلها!  فأوصى الإمام أن تُدفَن لحفظ جسَدِها مِنَ السِّباع! (المحاسن ج‏2 ص636).
 
لكن..
مَن للحُسين بن عليٍّ كي يدفنه يوم الطفوف!
 
آهٍ لقلبك يا زين العِباد..
تهتمُّ لدفن ناقةٍ وقفت سبعاً في عرفة، فصارَت من نِعَم الجنَّة، لكنَّهم منعوك عن دَفنِ أبيك! فظلَّ ثلاثاً حتى أتيتَهُ واعتنقته! ثم أنزلتَه في لَحده!
 
ذاك حيثُ قُلت: إنّ‌ الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة، أمّا الليل فمُسَهَّد! والحزنُ سرمد! (مقتل الحسين ص337).
 
نعم.. سيظلُّ الحُزنُ سرمَدياً باقياً لا أمدَ له ولا انتهاء، إلى يوم الجزاء..
فسلامُ الله عليك يا زين العباد، وعلى أبيك وأهل بيتك..
سلامٌ عليك يا إمامَ الأحزان.. بما صبرتَ ورضيت..
 
وإنا لله وإنا إليه راجعون

 الشيخ محمد مصطفى محمد مصري العاملي 
الثلاثاء 24 محرم 1444 هـ الموافق 23 – 8 – 2022 م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/08/23



كتابة تعليق لموضوع : السَّجَّاد.. إمامُ الأحزان!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net