على ضفاف الانتظار(61)
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي

لزومُ تصديقِ السفراء الأربعة (رضوان الله عليهم)
جرتْ سيرةُ العقلاءِ على أنّهم يقبلون بخبرِ الشخصِ الذي تمَّ توثيقُه عندهم بطريقة وبأخرى، ذلك التوثيق الذي قد يحصل من المعرفة الشخصية له من خلال معايشته لفترة يطمئن معها المرء بوثاقة ذلك المخبِر، أو قد تحصل من توثيق من يوثق به لشخص معين، وأعلى درجات التوثيق هي ما تحصل من توثيق المعصوم؛ إذ لا شك أن المعصوم لا يُخطئ في تشخيصه للثقة من غيره، خصوصاً إذا كان التوثيق صريحاً منه، ولا يقبل التشكيك أو الاحتمال الآخر.
وفيما يتعلق بالسفراء الأربعة (رضوان الله تعالى عليهم)، فإنه يمكن توثيقهم بأعلى درجات التوثيق، وإن وثاقتهم من الوضوح والتسالم لدى جميع أتباع الطائفة الحقة وأساطينها، بل هم بدرجة عالية من الصلاح والوثاقة حتى عند المخالفين، وهذا كله يمنع من التشكيك فيها من قبل بعض المرجفين، بل هي من الضرورات المذهبية التي لا تقبل الشك، ولذلك لم نجد أحداً من القدماء ولا المتأخرين، بل ولا حتى ممن ادّعو السفارة كذباً وزوراً، يُشكّك في وثاقة السفراء وفي صدقهم، وحتى عندما تعرّض المدّعون للسفارة زوراً إلى التوقيع الأخير الذي صدر من الإمام المهدي إلى السفير الرابع، فإنهم لم يُشكّكوا في عدالة السفير، ولم يطرحوا –ولو على مستوى الاحتمال الضعيف- أن السفير يمكن أن يكذب أو يشتبه في ذلك، وإنما أخذوا في تفسير كلامه بما يتناسب مع أهوائهم ولو من دون دليل، وهذا يؤكد تسالم الشيعة على وثاقة السفير، بل وعلى أنهم فوق الحاجة إلى توثيق أحد، ومعه فلا يُسمع لكلام من يحاول التشكيك بوثاقتهم أو من يريد أن يطرح احتمال كذبهم أو اشتباههم بحجة أنهم غير معصومين.
على أن من الثابت أن الإمام الهادي والعسكري كانا قد صرّحا بما لا يقبل الشك بوثاقة السفير الأول عثمان بن سعيد العمري وابنه محمد، فقد روي عن عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ قال: ...قال أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلْتُه وقُلْتُ: مَنْ أُعَامِلُ أَوْ عَمَّنْ آخُذُ وقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ لَه الإمام الهادي: الْعَمْرِيُّ ثِقَتِي فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي، ومَا قَالَ لَكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُولُ، فَاسْمَعْ لَه وأَطِعْ، فَإِنَّه الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ.
قال الحميري: وأَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ أَنَّه سَأَلَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَقَالَ لَه: الْعَمْرِيُّ وابْنُه ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، ومَا قَالا لَكَ فَعَنِّي يَقُولَانِ، فَاسْمَعْ لَهُمَا وأَطِعْهُمَا، فَإِنَّهُمَا الثِّقَتَانِ الْمَأْمُونَانِ.
فهذه الروايةُ غايةٌ في الوضوح في توثيق العمري وابنه، بل هي لا تُثبت عدمَ الكذب فقط، وإنما تُثبتُ عدمَ الاشتباه والنسيان أيضًا عند السفير.
وهكذا الأمر في سفارة الثالث والرابع، فقد روى الصدوق والطوسي بسندهما قالا: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدٌ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسْوَدُ (رضوان الله عليه)، قَالَ: كُنْتُ أَحْمِلُ الْأَمْوَالَ الَّتِي تُجْعَلُ فِي بَابِ الْوَقْفِ إِلَىٰ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ (رضوان الله عليه)، فَيَقْبِضُهَا مِنِّي، فَحَمَلْتُ إِلَيْهِ يَوْماً شَيْئاً مِنَ الْأَمْوَالِ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَأَمَرَنِي بِتَسْلِيمِهِ إِلَىٰ أَبِي الْقَاسِمِ الرَّوْحِيِّ (رضوان الله عليه)، وَكُنْتُ أُطَالِبُهُ بِالْقُبُوضِ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَىٰ أَبِي جَعْفَرٍ الْعَمْرِيِّ (رضوان الله عليه)، فَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُطَالِبَهُ بِالْقَبْضِ، وَقَالَ: كُلَّمَا وَصَلَ إِلَىٰ أَبِي الْقَاسِمِ وَصَلَ إِلَيَّ، قَالَ: فَكُنْتُ أَحْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِ وَلَا أُطَالِبُهُ بِالْقُبُوضِ .
وإذا ثبتتْ سفارته، فقد ثبتتْ وثاقته بأعلى درجاتِ الوثاقة؛ لأنَّ مقامَ السفارة مقامٌ عظيمٌ جدًا لا يناله إلا من امتحنَ اللهُ (تعالى) قلبه للإيمان.
وهكذا تثبتُ سفارةُ السفيرِ الرابع علي بن محمد السمري، الذي أوصى إليه الحسين بن روح، فقد رويَ عن أبي عبد الله محمد بن أحمد الصفواني قال: أوصى الشيخُ أبو القاسم (رضي الله عنه) إلى أبي الحسن علي بن محمد السمري (رضي الله عنه) فقام بما كانَ إلى أبي القاسم...
وبها تثبتُ الوثاقةُ بالبيانِ المُتقدِّم.
ولو تسايرنا مع المُشكِّكِ في احتمالِ كذبهم؛ لأنّهم غيرُ معصومين -رغم أنّنا لا نقبلُ هذا الاحتمال لأنّ المعصوم نصَّ على أنَّهم لا يكذبون كما تقدَّم، بل من الغريبِ أنْ يحتملَ الكذب فيهم رغم أنَّ المعصومَ قد نفى عنهم الاشتباه والنسيان عندما قال: (فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمعْ لهما وأطعهما)، فكيفَ يصلُ الأمرُ إلى احتمال كذبهم-، لأمكنَ تسريةُ هذا الكلام إلى كُلِّ الرواة، ومن ثَمّ فلا يُمكِنُ الركونُ إلى أيّ رواية ولا راوٍ، لأنَّ احتمالَ الكذب فيه موجود، ومن الواضحِ أنَّ هذا خلافُ ما بنى عليه العقلاء أمورَ حياتهم، فضلًا عن المُتشرِّعةِ من جميعِ ملل الإسلام.
ولعمري إنَّ هذا الاحتمالَ لا يُمكِنُ لعاقلٍ -فضلًا عن مُتشرِّع- قبوله.
وبعبارةٍ أخرى:
يبدو أنَّ المُستشكِلَ قد اعتمدَ على مُقاربةٍ كُليةٍ حاصلُها: إمكان كذب الثقة عقلًا أو وقوعه في الخطأ، وهذا ما لا نُنكِرُه، ولذلك قالوا: إنَّ حُجّيةَ خبرِ الثقة تعبُّدية، أي إنَّ الشارعَ تعبّدَنا بقبولِ مؤدّى خبرِ الثقة مع احتمالِ مُخالفةِ مضمونه للواقع.
لكنَّ ذلك لا يمنعُ من الاختلافِ بينَ الثقات في مستوى وثاقتهم، فبعضُ الناسِ -لِشدّةِ وثاقتِه- نجزمُ بعدمِ تعمُّدِه الكذب والافتراء، ومن يتهمُ مثلَ زرارة بالكذب أو يتعقّلُ احتمالَ كذبه واقعياً؟!
إنَّ نفيَ احتمالِ كذب زرارة ليس مُستندًا إلى نفي إمكانِ كذبِه اعتمادًا على استحالةٍ عقلية، وإنّما هو مُستندٌ إلى واقعِ بُنيته النفسية ومُستوى تديّنه الذي علمناه عليه.
والأعلامُ الأربعةُ الذين هم سفراء الغيبة الصغرى لا شكَّ أنَّهم كذلك من هذه الناحية، واما احتمالُ الخطأ غير المقصود فهو لا يتصوّرُ فيهم في مكاتبةٍ ليس لها أصل، أو في مُفردةٍ، أو ينسى فقرة منها مثلًا، أي إنّه لا يُمكِنُ أنْ نتصوّرَ أنَّ السفيرَ يأتي بكتابٍ وينسِبُه إلى الإمامِ الحُجّة كذبًا، ولا أنْ نتصوّرَ أنّه ينسى فقرةً من مكاتبةٍ أو حتى كلمة.
بل لا يُتصوّرُ خطؤه أو نسيانه في القول أيضًا، نظرًا إلى التوثيقِ الصادر منهم: «وما قالا لك عني فعني يقولان...»...
مضافًا إلى الرواياتِ التي كانَ فيها إخبارٌ بمكنونِ النفوس التي لا يعلمُ بها إلّا الله (تعالى)، أو بحوادث لم يكنْ يتيسرُ للسفراءِ أنْ يطلعوا عليها، وهذا بحدِّ نفسِه كاشفٌ عن صدقِهم وعن ارتباطِهم بالإمام.
وكذا المعجزات والتي ظهرتْ على أيديهم، ومنها إخباراتهم بقُربِ وفاتهم.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat