الإنسان بين وهج التقدم وظلال السقوط
مهيمن محمد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مهيمن محمد

في دهاليز الحضارة المعاصرة، حيث يلمع بريق الذكاء الاصطناعي وتخفت جذوة الأسئلة الكبرى، يسير الإنسان بخطى ثابتة نحو الراحة، وربما نحو اللاشيء. يسير كما يسير الحالم في منامه، مطمئنًا ومغمورًا، لكنه مهدد بأن يستفيق على صدمة العجز.
"وهج التقدّم، ولهيب الفراغ"
التقدّم ليس نورًا دائمًا، بل قد يكون لهيبًا يحرق جوهر الإنسان. فكل اختراع يُطفئ حاجة، وكل حاجة تُخمد شرارة التفكير. السيارات التي تسير بلا سائق، والأجهزة التي تفكّر بالنيابة عنّا، قد تبدو منجزات خارقة، لكنها في جوهرها تعفينا من أبسط صور الصراع الخلّاق.
تتراجع الحاجة إلى العمل، فيتراجع معها الإبداع، وما الحياة بلا تفكير إلا فراغ مزخرف.
"لذة الراحة، وخطر الخمول"
حين ينغمس الإنسان في الراحة المفرطة، يبدأ انسحابه من مسرح الفعل. الراحة التي وُجدت لتكون استراحة محارب، أصبحت ملاذًا دائمًا للهارب. الإنسان، بطبيعته، ميّال إلى الكسل إن لم يُوقظه دافع، وإن لم تسكنه إرادة.
هكذا تتحول التكنولوجيا من وسيلة إلى وسادة، ومن نعمة إلى منوّم، ومن محرك للتقدّم إلى بداية السكون الكبير.
"الإنسان، صانع الشر لا وريثه"
الشر لم يكن يومًا قوة خفية تتسلل من الظلام، بل هو أثر أقدامنا على هذه الأرض، الحروب، المجازر، تلويث الطبيعة، قتل الحيوان لأجل الترف، كل ذلك ليس إلا امتدادًا لإرادة بشرية انحرفت.
الشر وُلد حين تجاهل الإنسان ضميره، حين حوّل العقل إلى أداة دون بوصلة، وحين نَسيَ أن كل قوة بلا خُلُق هي بداية لانهيار قادم.
"الحرية، حين تتحوّل إلى فوضى"
الحرية وحدها لا تصنع الفضيلة، بل إن الإفراط فيها قد يلد الفوضى، والظلم، والخراب. الحرية التي لا يقيدها العقل، ولا يوجهها العلم، تصبح أداة دمار لا تحرر.
حرية الإنسان في الرأي والمعتقد حق، أما حرية القتل والتعدي والعبث فهي انتحار بطيء للحضارة.
"نهاية الذروة، وبداية الدائرة"
ما التقدّم إلا ذروة جبل، فإذا بلغناها تساءلنا: ماذا بعد؟ وعندها، تبدأ العودة. ليست العودة إلى الوراء فقط، بل إلى الغفلة، إلى البدائية المقنعة، إلى فقدان السيطرة على ما صنعناه بأيدينا.
ستأتي لحظة يتخلى فيها الإنسان عن مسؤولية الصيانة، ويمضي في نومه العميق، تاركًا خلفه أدواته تتآكل، ونظمه تتفكك، فلا يعود قادرًا على الإصلاح.
وهكذا، تبدأ دورة جديدة. دورة لا تمحو الماضي، بل تعيد بناءه على أطلالٍ لم تُمح.
"الخلاص، أن تتذكّر أنك إنسان"
ليس المطلوب الهروب من التقدّم، بل ترويضه. أن تواكبه وتستغله دون أن تذوب فيه. أن تستخدم التقنية لتخدمك لا لتشلّك. أن تتوازن بين الراحة والعمل، بين الصمت والتفكير، بين السرعة والبطء.
فقط حين تحصّن نفسك بحصون العلم، وتظل يقظًا في زمن النعاس الجماعي، يمكنك أن تبقى إنسانًا... لا آلة تسير بين آلات.
وحين يذوب الزمن وتتشابه الأيام، تذكّر أن أقوى ما فيك ليس هاتفك، ولا جهازك، بل قلبك وعقلك، ونفسك التي تُصر على أن تظل حرة، واعية، حيّة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat