يعدُّ دعبل بن علي الخزاعي (أول شاعر دافعَ عن حرية معتقده وجاهر به لا يخاف لومة لائم ولا عقوبة حاكم ظالم)(الديوان: 4).
أسمه الحسن، وقيل عبد الرحمن، وقيل محمد. وكما اختُلف في اسمه، اختُلف في كنيته، فقيل أبو جعفر أو أبو علي. تعني كلمة (دعبل) البعير المسن أو الشيء القديم، وقيل الناقة التي معها ولدها، وقيل بيض الضفادع والناقة القوية، وقيل غير ذلك. وكان أطروشا. ويقال أن أصله من الكوفة، وقيل من قرقيسيا. كما أن هنالك ثلاثة أقوال في نسبه: أحدها أنه دعبل بن علي بن رزين بن سليمان الخزاعي.
ولد دعبل بن علي الخزاعي سنة 148 وقيل سنة 142، وتوفي سنة 246 بالطيب وهي بلدة بين واسط العراق وكور الأهواز. وقيل أنه توفي سنة 244 وقيل 246. وقيل أنه توفي بقرية من نواحي السوس ودفن بتلك القرية وقيل بل حمل إلى السوس فدفن فيها. وقد عاشَ 97 سنة وشهورا. عُرف أجداد دعبل بميلهم لأهل البيت(عليهم السلام)، وهذا ما جعله يميل إليهم (عليهم السلام).
كان دعبل اللسانَ الناطق للجبهة المعارضة لحكم العباسيين الفاسد. فهجامهم وأثار سخط العامة عليهم. فقد كان إضافة الى مواهبِه الأدبية عالما من العلماء. رَوى عن الامامين الرضا والجواد (عليهما السلام). كما روى عن جماعة الاعلام في ذلك العصر، مثل الحافظ شعبة بن الحجاج والحافظ سفيان الثوري ومالك بن أنس والمأمون العباسي وغيرهم.
ورَوى عن دعبل جماعةٌ من مشاهير الرواة، من بينهم أخوه أبو الحسن علي وموسى بن حماد اليزدي وأبو الصلت الهروي وموسى بن عيسى المروزي وغيرهم.
وله عدد من المؤلفات، منها:
- كتاب طبقات الشعراء، ومن بين أبوابه:
• أخبار شعراء البصرة • أخبار شعراء الحجاز • أخبار شعراء بغداد
- كتاب الواحدة في مناقب العرب ومثالبها
- ديوان شعره الذي جمعه الصولي. وهو من بين المخطوطات العربية القيّمة التي فقدها العالم العربي والاسلامي. لكنّه جُمع في الآونة الأخيرة.
وكان صديقا للبحتري، وكان أبو تمام قد مات قبله، فرثاهما البحتري بقوله:
قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي * مثوى حبيب يوم مات ودعبلِ
شاعريته:
كان دعبل (رضوان الله عليه) شاعرا فصيحا، شهد له بذلك أشعر شعراء عصره، أبو نواس، إذ قال فيه: (أحسنتَ ملء فيك وأسماعِنا). وقال فيه المأمون: (ومعرفته لا تنكر، لله دره ما أغوصه وأنصفه وأوصفه، وأن تكون بعض أبياته نصب عينيه إذا عزم على سفر ومسلية له). وقال فيه المبرد: (كان دعبل والله فصيحا). وقال فيه القاسم بن مهرويه: (خُتم الشعر بدعبل لقولِه:
لا تعجبي يا سلمُ من رجل * ضحك المشيبُ برأسِه فبكى)
نقله شعره الحسن من الفقر والخمول إلى الغنى والظهور وكان سببا في منادمة هارون العباسي له. كما كان متفننا في فنون الشعر، مادحا ولاذعَ الهجاء. وكان شجاع القلب، قوي النفس، فطنا ذكيا عالِما مؤلفا متشيعا لأهل البيت(عليهم السلام)، ذابا عنهم. فكانت تائيته فيهم أشهر من قصيدة امرئ القيس (قفا نبك). سكن بغداد وجاب البلدان: خراسان والشام ومصر وبلاد المغرب. وقد أنشد لنفسه في بعض أسفاره قولَه:
حللت محلا يقصر البرقُ دونه * ويعجز عنه الطيفُ ان يتجشما
مدح الملوك والامراء وحظي بجوائزهم. وهجا جملةً منهم، ليس لقلة وفاءٍ منه، وانما لسوء عقيدته فيهم بإساءتهم إلى أهل البيت(عليهم السلام) الذين أخلص بالتشيع لهم، وبلغ الغاية في ذلك. فهو كوفي المنشأ، والكوفة منبع التشيع. وكانت خزاعة حلفاءَ بني هاشم في الجاهلية، وعرفت بالتشيع لأهل البيت في الاسلام.
أدرك أربعةً من أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وهم الصادق والكاظم والرضا والجواد(عليهم السلام).
وذهب دعبل إلى خراسان في خدمة الإمام الرضا(عليه السلام). فكان مسليا للإمام بنوادره وأمثاله وأشعاره.
أشعاره في أهل البيت(عليهم السلام):
لدعبل بن علي الخزاعي أشعارٌ كثيرة خصّصها للعلويين، الذين يمثلون جانب الحق والعدالة، ويناضلون من أجل انقاذ الفقراء مما حاقَ بهم من ويلات إبان الحكم الأموي والحكم العباسي.
ومن أشعاره في أمير المؤمنين(عليه السلام):
ألا انه طهر زكي مطهَّر * سريع إلى الخيرات والبركات
غلاما وكهلا خير كهل ويافع * وأبسطهم كفا إلى الكربات
وأشجعهم قلبا وأصدقهم أخا * وأعظمهم في المجد والقربات
أخو المصطفى بل صهره ووصيه * من القوم والستار للعورات
كهارونَ من موسى على رغم معشر * سفالٍ لئام شفّق البشرات
فقال ألا من كنتُ مولاه منكم * فهذا له مولى بُعيد وفاتي
أخي ووصيي وابن عمي ووارثي* وقاضي ديوني من جميع عداتي
على أن تائيته المشهورة خير ما يمكن أن يُذكر كدليلٍ على حبِّه لأهل البيت(عليهم السلام) واللوعة لما أصابهم. وقد ألقاها في حضرة الامام الرضا(عليه السلام)، ويقول فيها:
تجـاوبن بالإرنـان والزفـرات نـوائح عجـم اللفـظ والنطـقاتِ
فتأثر الامام(عليه السلام) كأشدَّ ما يكون التأثر بتلك الأبيات، فبكى أمرَّ البكاء، وأغمي عليه. ثم قال الامام عما جرى في كربلاء: (إن أمر الحسين أسهر جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا، يا ارض كرب وبلاء أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فان البكاء عليه يحط الذنوب والعظام).
ونهض الامام (عليه السلام) وقال: (لا تبرح). وأهداه صرةً فيها مائة دينار، فردّها، وقال: (ما لهذا جئت). وطلب شيئا من ثياب الامام لامسَ جسمه المبارك، فأعطاه جبة من خزٍّ والصرة، وقال للخادم: (قل له خذها فإنك ستحتاج إليها ولا تعاودني). فأخذها وسار من مرو في إحدى القوافل، فوقع عليهم اللصوص وأخذوهم، وجعلوا يقسمون ما أخذوا من أموالهم، فتمثل أحدهم بقوله:
أرى فيئهم في غيرهم متقسِّما * وأيديهم من فيئهم صفرات
قال دعبل: (لمن هذا البيت)؟
فقال الرجل: (لرجل من خزاعة يقال له دعبل).
فقال له: (فأنا دعبل قائل هذه القصيدة).
فأطلقوا سراحَه وسراح جميع من في القافلة، وردوا إليهم ما أخذوه. ولما وصل إلى قم، أنشدهم القصيدة. فوصلوه بمالٍ كثير. ثم سألوه أن يبيعهم الجبة بألف دينار، فأبى وسار عن قم. فلحقه قوم من أحداثهم، وأخذوا الجبة منه، فرجع وسألهم ردَّها، فقالوا:
(لا سبيل إلى ردها، فخذ ثمنها ألف دينار).
فقال: (على أن تدفعوا إلي شيئا منها).
فأعطوه بعضها وألف دينار.
ولما عاد إلى وطنه، وجد اللصوص قد أخذوا ما في منزلِه، فباع المائة دينار التي وصله بها الامام (عليه السلام) من الشيعة كل دينار بمائة درهم، وتذكَّر قول الامام (عليه السلام):
(إنك ستحتاج إليها).
وعن أبي الصلت الهروي، قال: سمعت دعبلا قال:
(لما أنشدت مولانا الرضا -عليه السلام- القصيدة، وانتهيت إلى قولي):
خروج إمام لا محالة خارج * يقوم على اسم الله بالبركات
يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الإمام (عليه السلام) بكاء شديدا، ثم رفع رأسه إلي، وقال: (يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم)؟
قلت: (لا، إلا أني سمعت يا مولاي بخروج إمام منكم يملأ الأرض عدلا). فقال: (يا دعبل، الإمام بعدي محمد ابني، ومن بعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبتِه، المطاع في ظهوره، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج، فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وأما متى؟ فإخبارٌ عن الوقت، ولقد حدثني أبي، عن أبيه، عن آبائه، عن علي -عليه السلام- أن النبي (صلى الله عليه وآله) قيل له: (يا رسول الله، متى يخرج القائم من ذريتك)؟
فقال: (مثله مثل الساعة، لا يجليها لوقتها إلا هو، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة).
ومن رثائه للإمام الحسين(عليه السلام) قوله أيضا:
رَأسُ اِبنِ بِنتِ مُحَمَّدٍ وَوَصِيِّهِ يا لِلرِجالِ عَلى قَناةٍ يُرفَعُ
ولما توفي الإمام الرضا (عليه السلام)،أمر المأمون بدفنه إلى جانب أبيه، ولما سئل عن ذلك، قال: ليغفرَ الله لهارون بجواره للإمام الرضا. ولما سمع دعبل ذلك هزأ وقال:
قبران في طوس خير الناس كلهم وقبر شرهم هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما كسبت له يداه فخذ ما شئت أو فذر
وكان ذلك أقذع هجاء بحق هارون، إذ عبّر عنه تارة بشرِّ الناس، وأخرى بالرجس، وانه لا ينتفع بقربه من قبر الامام. فكل امرئ يُحاسَب بما كسبت يداه.
ولما بايع العباسيون ابراهيم بن المهدي شيخ المغنين ردا على مبايعةِ المأمون للإمام الرضا(عليه السلام) وليا للعهد، قال دعبل:
علم وتحكيم وشيب مفارق طلسن ريعان الشباب الرائق
ومن هجائه المرّ والقاسي للمعتصم العباسي:
بَكى لِشَتاتِ الدينِ مُكتَئِبٌ صَبُّ وَفاضَ بِفَرطِ الدَمعِ مِن عَينِهِ غَربُ
اختلفت الروايات في سبب موته، فقيل أن المعتصم قتلَه لأنه هجاه، وقيل أنه هجا ابن مالك بن طوق التغلبي فبعث له مالك رجلا سمه بالسوس، وأعطاه على ذلك عشرة آلاف درهم.
وقد رثاه صديقه الشاعر الكبير أبو تمام الطائي بهذه الأبيات:
قد زادَ في كَمَدي وَأَضرَمَ لَوعَتي مَثوى حَبيبٍ يَومَ بانَ وَدِعبِلِ
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat